17.6.09

مورفولوجيا السلوك الخياني وسيرورة تطوره






لعل الخيانة من الظواهر القليلة التي واكبت التاريخ البشري برمته واثرت بقوة على سيرروته وصنع احداثه حتى اضحت عاملا مهما في حقل السوسيولوجيا الدينامية والتي تعنى بدراسة التغيرات التي تطال المجتمعات كون الخيانة اثرت وبشكل كبير في إحداث المنعطفات التاريخية والاجتماعية والسياسية الكبيرة .

كما ان مخرجات التجربة الانسانية لم تخل من التطرق لهذه الظاهرة - في مجمل الحقول - واخضاعها للبحث الفلسفي والعلمي ، وايضا الرسالات والكتب السماوية سلطت الضوء على تلك الظاهرة وأخص بالذكر هنا اعظم كتاب ارسله الله للبشرية " القرآن الكريم " والذي احتوى على 16 مرة لكلمة الخيانة ومشتقاتها مما يدلل على اهمية تلك الظاهرة وعدم اسقاطها من التشريعات السماوية بل والاهتمام بوضع حلول لها عبر جملة من الاحكام التي احتوتها تلك الكتب العظيمة معطوفا عليها الاوامر النبوية حيالها .



مورفولوجيا ومفهوم الخيانة في ضوء حركة التاريخ :-

برزت الخيانة ملازمة للطبيعة البشرية باعتبارها انعكاسا لبعض الطبائع السلبية والتي في جوهرها كانت انتهازية ونفعية شخصية ونتاج مؤثرات العلاقات والتفاعلات المجتمعية ، وحديثا لم تختلف الدوافع المكونة للخيانة باعتبارها ثابتة نوعا ما – حتى لا نقع بسذاجة ميكافيللي الذي اكد على ثبات الطبيعة البشرية - لكن دون اغفال أن الظاهرة تطورت شكلا ومضمونا وماهية وسلوكا .

لكن كون الخيانة سلوك وممارسة "وحديثا " نسقا فكريا متكاملا جوهره الانسان والذي يوصف بأنه ظاهرة غير مستقرة لا يمكن اخضاعها للقوانين المادية " الطبيعية والفيزيائية " فإن الخيانة ظلت ظاهرة و مصطلحا مبهما و متغيرا و يرزخ تحت وطأة التحوير وتتقاذفه تعقيدات الحياة المطردة والمتغيرات الفكرية والسياسية والسلوكية للجماعات البشرية والبعد المصلحي الانتهازي الضيق لبعض المتنفذين عبر التاريخ .

لكن بقيت الخيانة كمفهوم إلى العصر الوسيط تحتفظ بأهم ملامحها والتي قاومت كل محاولات افراغها من محتواها الحقيقي ومضامينها الاساسية وبقيت متجذرة بالمدركات البشرية إلى الان ، فالخيانة ظاهرة اجتماعية سلبية ينسلخ فيها فرد او مجموعة افراد او هيئة عن جماعة تربطهم بها علاقات اثنية او تاريخية أو وطنية او ايديولوجية للعمل مع عدوها الذي يهددها انطلوجيا واقتصاديا وعلى كافة الصعد مما يهددها ويهدد مصالحها .

وفي العصر الحديث تعرضت الخيانة لمحاولات ممنهجة و جادة وكبيرة وذات طابع دنيء طالت الشكل والمضمون فلم تعد مفهوما كلاسيكيا واضح المعالم بل أصبح مصيرها كمصير كثير من المصطلحات التي ألبست اثوابا جميلة لتخفي قبحها وانعكاساتها التدميرة على الحضارات البشرية فكما الرابا اصبح فائدة !! فالخيانة أريد لها أن ترتدي اثوابا كثيرة منها ، " التعاطي مع الواقع " الذي يفرضة العدو، واضحت " السلوك الايجابي والتقدمي " وعدم التزمت والعدوانية ازاءه ، وأضحت " سحب الذرائع وكبح الجماح " أمام هجماته ، وأضحت " العيش المشترك وتبادل القبلات " كسلوك حضاري تنتهجه الشعوب الحديثة ! وبلغة أخرى أصبح التعاطي المريب مع المحتل حنكة وحذاقة تقي من الشرور والعمل مع العدو – الذي هو جوهر الخيانة – أصبح ضرورة موضوعية واجبة !! .

وهذا يقود إلى أن الظاهرة قد اختزلت وحرفت لتصبح سلوك غائي يهدف لجلب المنفعة بصرف النظر عن الطريقة والسلوك وايضا صراع جدوى ونضوج بين الرؤى والمشاريع التي تسعى لرقي الشعوب بصرف النظر عن الميكانيزمات " الآليات " المستخدمة ولو كانت بالتماهي مع المحتل وتقاطع الاجندة معه وتنفيذ ارادته ومشيئته !! وبين المشاريع التي تنشد ذلك بالمقاومة وطرد المحتل الذي هو سبب المصائب والمكائد ولو كان على حساب منافع آنية لا تسكر الا البعض .


الخيانة من الاستئصال إلى التمثيل والمشروعية :


وبما أن الظاهرة مرت بمتغيرات وعمليات حرف وتجميل فإن طبيعة التعاطي معها مرة ايضا بنفس الاطوار واعترته ذات الظروف ، فبداية كانت حتمية الموت والتنكيل والتشهير تنتظر كل خائن – كان فرد او هيئة - او في أحسن الاحول الطرد والاحتقار ، لكن مع تطور الظاهرة وكونها أضحت نسقا فكريا ومجموعة من المفاهيم والتصورات ويتم ممارستها عبر هيئات وتكتلات سياسية ومجتمعية وتحظى بتأييد شرائح مجتمعية بالتضليل والمال السياسي أصبح التعاطي القديم فاقداً للشرعية الاخلاقية والقيمية والحضارية ! ، وباتت لغة الاشتباك السياسي والفكري والاعلامي ترسم علاقة التعاطي مع تلك الظاهرة مما أكسبها شرعية وتمثيلا مجتمعيا وتكريسا لنهجها وممارستها تحت شعارات الحياة الديمقراطية والاجتهادات السياسية ووجهات النظر بل ووصلت الامور انحدارا لدرجة أن تصبح خطا وطنيا بكل ما تحمل الكلمة من معنى !

كيفية القضاء على الظاهرة :-


لعل الظاهرة في اطوراها الاخيرة والتي أكتسبت خلالها الشرعية والتأييد وأضحت خطا وطنيا !! وايديولوجيا لقطاعات وزمر بشرية وأضحى معتنقوها يقابلون بالمديح والاطراء من البعض ولهم ثقل سياسي وفكري وفي كل مناحي الحياة ، كان لابد من وقفة جادة وتغير في التعاطي مع هذه الظاهرة الاخيرة وعدم الاكتراث بالمفاهيم المكبلة والشعارات الزائفة والمحددات القانونية الهلامية والمريبة ولابد من عمل جاد يرتدي طابع الثورة باعتبارها مفهموما وسلوكا يرمي لاحداث تغيرات جوهرية وجذرية ولا بد من انتهاج سياسة الالغاء والتقويض للمشاريع المنبثقة عن تلك الظاهرة ولنا في التاريخ الحديث أكبر عبرة خاصة في التجربة الصينية والتي هزم فيها الحزب الشيوعي الحزب الوطني الخائن والمتحالف مع الامبريالية عبر حرب داخلية دون الاكتراث بالاعتبارات والمفاهيم المصطنعة من البعض وايضا التجربة الفيتنامية وغيرها الكثير .

أما انتهاج سياسية وديعة وسلمية اتجاه هذه الظاهرة فإنه ينذر بالمزيد من الإنحدار وهدر الحقوق والمنجزات لكافة الشعوب التحررية او المعتدى عليها او التي تنشد رقيا والقبول المجحف في البقاء في الحضيض وتقويض كل المشاريع النهضوية التي تنشد عزا وتمثيلا حضاريا فاعلا ينهي عصور الظلام .




عامر سعد

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق