17.6.09

المال السياسي إذ يرسم خارطة المنطقة !!





في ظل استمرار الصراع المحتدم والمشبوب بين محوري الممانعة والاعتدال في منطقتنا الشرق أوسطية وتبلور أهم معالمه ووضوح مدخلاته ومخرجاته والعوامل الصانعة له بعد أن شهد مراحل جنينية شكلت ولسنوات ستارا أخفى الاوجه السلبية والقذرة لهذا الصراع ، أصبح بالإمكان الحصول على استقراء غوري وتفسير دقيق لا يقبل التأويل إزاء كل جولات الصراع وافرازاته الممتدة في طول المنطقة وعرضها .

لكن وفي آخر جولتين من الصراع الآنف الذكر – فلسطين ولبنان - والذي اعاد رسم خارطة المنطقة سياسيا واجتماعيا برز عامل الاقتصاد السياسي وعلى وجه الخصوص المال السياسي كعامل جوهري يحدد ماهية مخرجات تلك الجولات والتي انعكست بطبيعة الحال على الحياة السياسية والبنية الاجتماعية في تلك البلدان مما أدى إلى كوارث وويلات كبيرة لما لهذا العامل من آثار تدميرة تهدد الاستقرار وتخلط الاوراق وتنسف المفاهيم وتهدد النسيج الاجتماعي وتقولب المدركات بطريقة قذرة يصعب تداركها بسهولة .

ولعل هذا العامل – اذا أخد بكليته " الاقتصاد " - غائر في القدم وليس بالامر المحدث في سيرورة التاريخ البشري وليس جديدا في جل الفلسفات التي حاولت فهم التاريخ وصياغة نظريات علمية لنهضة شعوب الارض ، بل تطرف البعض واعتبره المسبب الرئيسي في نشوء الظواهر الانسانية وتشكل الوعي البشري وبالتالي التاريخ البشري ككل ، وهذا عائد لسطوة ذلك العامل على النفس البشرية خاصة إن كانت تعاني من جملة من الامراض والآفات وايضا إذا تم استخدام هذا العامل بانتهازية لخدمة طبقات مجتمعية أو تكتلات سياسية وهذا ما حدث في منطقتنا للأسف حيث ارتدى هذا العامل ديكتاتورية صرفة ازاء رسم الخارطة السياسية والاجتماعية منحيا العوامل الاخرى والذي أدى لمزيد من الاضمحلال والانحطاط في واقعنا ووضع عوائق جديدة امام المشروع النهضوي والمقاوم لكل التحديات والمخططات التي تستهدفه .


المال السياسي انعكاس للضعف الحزبي !

وبما أننا نتناول المال السياسي كمصطلح أضحى يرتبط ببعض التكتلات والاحزاب السياسية التي تمثل بعض الشرائح المجتمعية في الحياة السياسية ، وبما ان الحزب يعني وبشكل مبسط بانه جماعة معينة من الافراد المنظمين تسعى للوصول للحكم لتطبيق برنامجها السياسي المعبر عن آمال وطموحات التربة المجتمعية التي أفرزتهم بانتهاج "وسائل مشروعة " ، فإن تحقيق الهدف الاستراتيجي لبعض الاحزاب – الذي هو سبب وجودها - لم يقتصر على الوسائل المشروعة كمفهوم جذاب تزدان به الكراسات الحزبية بل تجاوزه لانتهاج وسائل لا اخلاقية وانتهازية من ضمنها المال السياسي والذي في جوهره هو عملية شراء ذمم بعيدا عن السلوك الصحي للأحزاب والذي يتمثل في عمليات التعبئة والتنظير والاقناع للشرائح المجتمعية وتقديم الخدمات وتبني البرامج التي تعبر عن هموم الشعب وتطلعاته .

ولقد اثبتت التجارب التاريخية ان النظم والتكتلات السياسية تلجا لهذه الوسيلة عندما تفقد ديناميتها وقدرتها على التأثير في الحياة العامة ، وهذا يقود إلى ان السلوك الشائن والبعيد عن التنافس الحزبي الشريف من قبل بعض اطراف محور الاعتدال خاصة في لبنان كما اثبتت الانتخابات الاخيرة ومحاولات حركة فتح في انتخابات 2006 يندرج في سياق الافلاس الحزبي في التنظير والتحشيد والتعبئة وبلورة شرائح داعمة لرؤى الحزب والإلتفاف حول تصوراته بدون استخدام مؤثر لااخلاقي ومتحلل من كل المنظومات القيمية والمسلكية ، وهذا ما أدى وسيؤدي إلى تداعيات سلبية تطال الحياة العامة بكل تجلياتها ورسم خارطة سياسية مجتمعية هشة وقابلة للسقوط وغير قادرة على النمو والنهوض الحقيقي .


في تربة التقشف الفكري يزدهر المال السياسي !

ولعل المال السياسي كغيره من العوامل بحاجة لتربة مناسبة لكي يزدهر بها ويؤتي ثماره ، وهذه التربة هي حالة التقشف والخواء الفكري وانتفاء الوعي الشعبي – دون اغفال البعد السيكولوجي المرضي للبعض- بطبيعة المرحلة و بمحددات الحياة السياسية وماهية التحديات والعوائق التي تقف حائلا امام النهضة المنشودة والانعتاق من نير الاحتلال وتسلطه على مقدرات الشعب ومنجزاته ، وهذا بتنا نلمسه في واقعنا الفلسطني .

ناهيك عن صرف النظر من قبل أصحاب الخواء الفكري عن تحول الاحزاب التي تنتهج المال السياسي لادوات رخيصة في يد المحتل – كنتيجة طبيعية - كون المال السياسي قابل للنفاذ وبحاجة لمنابع دائمة ، وهذا المال لا يتأتى في حالتنا العربية التي تعاني العجر إلا من خلال قنوات امبريالية معروفة الوجهة والاهداف والتي لن تكون بأي حال متناغمة مع اهدافنا وطموحاتنا مما يعني التسليم بسيادة ارادة الغير على مجريات حياتنا وتحولنا لعبيد تعيش على الفتات .

وللأسف فإن حالة التقشف الفكري مستمرة رغم محاولات محور الممانعة كي الوعي العربي ازاء القضايا التي تهمه والتحديات التي تواجه ، حيث افرزت الانتخابات اللبنانية الاخيرة استمرار تلك الحالة وتكرسها لدى شرائح مجتمعية كبيرة ، والذي سيؤدي بطبيعة الحال إلى مزيد من عمليات شراء الذمم وانتفاء المقاومة للمشاريع الهادفة للتماهي والذوبان في الجسد الامبريالي وفقدان البوصلة والهوية الوطنية والتي كانت وعلى الدوام تمثل الرافعة لأي جهد تنموي ونهضوي يهدف لإنتشال الامم من براثن الانحطاط .


المال السياسي هل يتحول إلى وباء عالمي ؟!

وفي ضوء ما تقدم فإن استمرار هذا النهج من قبل البعض مستغلين حالة التقشف الفكري وتسطيح العقول خاصة في منطقتنا ينذر بكوارث ستقوض المنجزات التي تم احرازها في الاونة الاخيرة خاصة على الساحتين اللبنانية والفلسطنية ، وينذر برسم خارطة قاتمة وسوداوية مما يعني استمرار الانحطاط والذوبان الذي يتم تغليفه بشعارات رومنسية اثبتت التجارب زيفها .

وإزاء ذلك نحن بحاجة لعمل دؤوب يستهدف الشرائح المجتمعية وبكافة الوسائل المشروعة وبمنهجية عالية ، ولعل فلسفة التغيير الاجتماعي تعتبر حلا ناجعا لمعالجة هذا المرض والتي تهتم بخلق جيل واعي بقضاياه وقادر على مقاومة هذه المرض من خلال تكوين فكري متين يصعب اختراقه وخداعه بسهولة .

أما إن لم تعالج تلك الآفة و التي باتت تهدد الحياة السياسية والاجتماعية وتنذر بحالات جديدة من الاقتتال الداخلي وتفتت النسيج الاجتماعي والتأثير على مجمل الحياة العامة ، فإن تلك الآفة ستتحول لوباء يقضي على هوية المنطقة سياسيا وحضاريا .





عامر سعد

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق